مسائل خالف فيها الشيخ التجاني مذهب مالك

عشرة مسائل خالف فيها الشيخ التجاني مذهب مالك
إعلم أن تقيد مذهب من المذاهب لا يجوز إلا للعوام لا يجوز لعالم مجتهد أن يتقيد بمذهب كما قال الشيخ عمر الفوتي في الرماح والشيخ إبراهيم انياس في رفع الملام.
يقول الشيخ كنون الرضى رضي الله عنه في موقعه : : فقَدْ طلَبَ منِّي أَحَدُ الإخوانِ أَنْ أُبَيِّنَ له بعْضًا مِنَ المسائِلِ التي خَالَفَ فيها سيِّدُنَا الشيخُ رضي الله عنه مذْهَبَ الإمامِ مالك، مَعَ العِلْمِ أنَّهُ رضي الله عنه كانَ مَالِكِيَّ المذْهَبِ مُنْذُ نُعُومَةِ أظافِرِهِ، بَلْ كان مِنْ كبارِ حَمَلَةِ المذْهَب مِنْ خلَالِ مؤلفَاتِهِ وشرُوحِهِ ومجَامِيعِهِ ومختَصَرَاتِهِ، وهذَا بطبيعَةِ الحالِ قبْلَ نزُولِهِ في مرتبَةِ القطبانيَةِ العُظْمَى بمدينَةِ فاسٍ عام 1214هـ، أما بعْدَ نزُولِهِ فيها فلَهُ آنذاك حُكْمٌ آخَرُ شامِلٌ لكافَّةِ المذاهِبِ، يدُورُ مَعَ الحَقِّ فيها حَيْثُ دَارَ.
واتَّبَعْتُ في هذا الجوَابِ ما ذَكَرَهُ العلامةُ سيدي أحمَدُ سكيرِجُ في بعْضِ تقاييدِهِ أَنَّ سيدَنَا الشيْخَ رضي الله عنه خَالَفَ مذْهَبَ مالك فِي عَشْرِ مسائل، مَعَ العِلْمِ أَنَّ العلامَةَ سيدي محمدَ الحجوجي وَصَلَ بهذِهِ المسائِلِ في تَقْيِّيدٍ لَهُ إلى عشرينَ مسألةً. وسنَقُومُ بِدِرَاسَةِ هذه المسَائِلِ بدِقَّةٍ فيما بَعْدُ، ولَا بَأْسَ أَنْ أَسْتَعْرِضَ وبِاخْتِصَارٍ شيْئًا مِنْ هذِهِ المسائِلِ العَشْرِ التي أشَارَ لها العلامةُ القاضي العارف سيدي أحمد سكيرج:
1 ـــ رِدَّةُ أَحَدِ الزوجين على عقد الزواج، فالقول المشهور عند المالكية أنه إذا ارْتَدَّ أحدُ الزوجين فُرِّقَ بينهما وتكون طلقَةً بائنةً بينونة صغرى، أما سيدُنَا الشيخ رضي الله عنه فيرى أنَّ الواجِبَ في هذه الحالةِ هُوَ الفسْخُ لا غير، يُفْرَقُ بينهما مِنْ دون طلاق، بسبَبِ أنَّ أحدَهُمَا ارْتَدَّ عن دينِهِ وكَفَرَ،
2 ــ ذِكْرُ اللَّهِ جمَاعَةً، فقد كَرِهَ مالكُ وجماعةٌ مِنَ العلماء لِأَئِمَّةِ المساجدِ والجماعاتِ الدعاءَ عَقِبَ الصلوَاتِ المكتوبَةِ جهْرًا للحاضرينَ، وذَهَبَ سيدنا الشيخ التجاني رضي الله عنه على جوَاز الذِّكْرِ واستحْبَابِهِ تماشيًا مع الحديثِ الذي أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّة فَارْتَعُوا. قَالُوا: وَمَا رِيَاض الْجَنَّة ؟ قَالَ: حِلَق الذِّكْر،
3 ــ اتِّخَاذُ الأُجْرَةِ على الإمامةِ، يقول المالكية بجوَازِ أخْذِ الرِّزْقِ مِنْ بيْتِ مالِ المسلمين مُقَابِلَ الإمامَةِ، ويقولون بأَنَّ بيْتَ المالِ مُعَدٌّ لمصَالِحِ المسلمينَ، ومِنْ مصالِحِهِمْ الإمامةُ. ولسيدِنَا الشيْخِ التجاني رضي الله عنه قوْلٌ واحدٌ في هذه المسألةِ وهو عَدَمُ الجوازِ، وقد أفصَحَ عَنْ ذلك في كتاب الإفادةِ الأحمدية،
4 ــ أَخْذُ الأُجْرَةِ على الشهادَةِ، فالمعرُوفُ عنْدَ المالكيَّةِ القوْلُ بجوَازِ أخْذِ الأُجْرَةِ على تَحَمُّلِ الشهَادَةِ، وهُوَ ما يُعَارِضُهُ سيدُنَا الشيخُ التجاني رضي الله عنه، ويقُولُ بأنَّهَا يعني الشهَادَةَ لا تكُونُ إلا لِلَّهِ، فلا يجُوزُ إطلَاقًا أخْذُ الأُجْرَةِ علَيْهَا، ودليلُهُ في هذا قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،
5 ــ الجَهْرُ بالبسملَةِ وَوَصْلُهَا بسورَةِ الفاتحةِ في الصلاة، قال العلامة سيدي أحمد سكيرج في كتابه قدَمِ الرُّسُوخِ، فيما لمؤلفه من الشيوخ: وليْسَ فيهَا خرْقُ سِيَاجِ المذْهَبِ المالكي لوُجُودِ أقوَالٍ فيه تُوَافِقُ اختِيَارَهُ، قال سيدُنَا الشيخ التجاني رضي الله عنه في كتاب الإفادَةِ الأحمديَّةِ، لمُرِيدِ السعادة الأبدية، لسيدي الطيبِ السفياني: عُمْرِي مَا نَتْرُكُ البَسْمَلَةَ مُتَّصِلَةً بِالفَاتِحَةِ، لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا لِلْحَدِيثِ الوَارِدِ فِي فَضْلِهَا المُؤَكَّدِ بِاليَمِينِ. ذَكَرَهُ الغَافِقِي فِي فَضْلِ القُرْآنِ.
قال سيدي الطيب السفياني: وَقَوْلُهُ مُتَّصِلَةً أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِوَقْفٍ
قُلْتُ: وَمِنْ طَرِيفِ ما حصَلَ أنَّ العلامَةَ مولاي الزكي المدغري، وهُوَ أحَدُ كبَارِ الأعلَامِ مِنْ أصحابِ سيدِنَا الشيْخِ رضي الله عنه ناقَشَهُ في هذِهِ المسأَلَةِ، وأَتَى في يَدَيْهِ بمجمُوعَةٍ مِنَ المؤلفَاتِ الفِقْهِيَّةِ ذات الصِّلَةِ بهذا الموضُوعِ، فقالَ لَهُ سيدُنَا الشيْخُ رضي الله عنه: يَا مَوْلَايَ الزَّكِي أَنَا أُخَالِفُ فِيهَا مَذْهَبَ مَالِكٍ عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ، [قُلْتُ] وقَدْ أَلَّفَ العلامةُ سيدي مَحَمَّدُ بن محمد بن عبد السلام كنون كتابًا في الموضُوعِ بعنوان: الصواعق المُرْسَلَةِ، إلى مَنْ أنْكَرَ الجهْرَ في الفريضَةِ بالبسملة
6 ــ إِعْطَاءُ الزكَاةِ لسادَاتِنَا أهْلِ البَيْتِ النبوي الكريم، فقَدْ اختَلَفَ المالكيَّةُ في هذا الشأْنِ، ورَأَى بعْضُ المُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ جوَازَ إِعطائِهَا لَهُمْ لأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ حَظِّهِمْ مِنْ بيْتِ المَالِ.
فسيدُنَا الشيخ التجاني رضي الله عنه يُخَالِفُهُمْ الرَّأْيَ في هذه المسألَةِ، وقولُهُ فيها موجودٌ في كتابِ الإفادَةِ الأحمدية، لِمُرِيدِ السعادة الأبدية، لسيدي الطيب السفياني، حيث قال: لَا تَحِلُّ لَهُمْ وَلَا تُجْزِئُ مُعْطِيهَا لَهُمْ لِأَنَّ العِلَّةَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِمْ كَوْنُهَا أَوْسَاخَ النَّاسِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِيهَا، وَالعِلَّةُ تَدُورُ مَعَ المَعْلُولِ كَمَا هِيَ القَاعِدَةُ الأُصُولِيَّةُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَحَلَّهَا بَيْتُ المَالِ، حَيْثُ لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِحَقِّهِمْ مِنْهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِي أَخْذِهَا، لَا يَصِحُّ لِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا.
7 ــ قَضَاءُ صلَاةِ الشَّفْعِ والوتْرِ، فعِنْدَ المالكية مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الوتْرَ قبْلَ صلَاةِ الصبْحِ فَلَا قضَاءَ عليْهِ، وذَهَبَ سيدُنَا الشيخُ التجاني رضي الله عنه على أَنَّ الشَّفْعَ والوتْرَ يُقْضَيَانِ ولَوْ بعْدَ طلُوعِ الشمْسِ، وقال في كتابِ الإفادَةِ الأحمدية، لمُرِيدِ السعادة الأبدية، لسيدي الطيب السفياني: مَنْ فَاتَهُ الشَّفْعُ وَالوَتْرُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلْيَقْضِهِمَا، وَيَذْكُرْ الجَوْهَرَةَ ثَلَاثاً [يعني صلاة جوهرة الكمال] وَيَنْوِي بِهَا الجَبْرَ، فَإِنَّهُمَا يَنْجَبِرَانِ، وَيَرْفَعَانِ صَلَاةَ اليَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُمَا عَدَا صَلَاةَ العَصْرِ، فَإِنَّهَا تُرْفَعُ بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الوُسْطَى.
8 ــ صَرْفُ الأوْقَافِ في غيْرِ مَحَلِّهَا، بحيْثُ أَجَازَ بعضُ مُتَأَخِّرِي المالكيةِ استِعْمَالَ غلَّةِ وَقْفٍ فِي وَقْفٍ آخَرَ، وبالتَّالِي تمَّتْ إضافَةُ أوْقَافِ بعْضِ المسَاجِدِ إلى وَقْفِ جامِعِ القرويينَ، نَظَرًا لِكِبَرِ حَجْمِ الجامِعِ المذكورِ، واكْتِظَاظِ المُصَلِّينَ بِهِ، مَعَ المُدَرِّسِينَ والطَّلَبَةِ وما إِلَيْهِمْ، وعَنْ هذا الموضوعِ قال سيدُنَا الشيخُ رضي الله عنه في كتاب الإفادَةِ الأحمدية، لمُرِيدِ السعادة الأبدية، لسيدي الطيب السفياني: أَحْبَاسُ القَرَوِيِّينَ حَرَامٌ لِإِضَافَةِ أَحْبَاسِ غَيْرِهَا إِلَيْهَا، وقال في هَذَا الشَّأْنِ أيضًا: مَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا النَّارُ إِلَّا إِذَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ.
وقال العلامة سيدي أحمد سكيرج في كتابِهِ تِيجَانِ الغواني، في شرح جواهر المعاني: وَقَدْ ثَبَتَ لَدَيَّ أَنَّ الشَّيْخَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشَدِّداً فِي هَذَا الأَمْرِ كَثِيراً، بِحَيْثُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحِبُّ إِذْخَالَ اسْتِغْلَالِ حَبْسٍ فِي حَبْسٍ، وَبِالأَخَصِّ أَحْبَاسَ القَرَوِيِّينَ. فَقَدْ اسْتَوْلَتْ عَلَى أَوْفَارِ الأَحْبَاسِ، وَصَرَفَتْ مَدْخُولَاتِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. فَكَانَ ذَلِكَ مَصْرُوفاً فِي غَيْرِ مَا هُوَ مُعَيَّنٌ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالأَمْرِ الهَيِّنِ عِنْدَ مَنْ عَامَلَ اللَّهَ فِي أَمْرِ الدِّينِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الكَلَامَ عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَيْضاً فِي شَرْحِ الإِفَادَةِ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ قُدِّسَ سِرُّهُ: أَحْبَاسُ القَرَوِيِّينَ حَرَامٌ لِإِضَافَةِ أَحْبَاسِ غَيْرِهَا إِلَيْهَا.
9 ــ جوَاز صلاةِ المُتَيَمِّمِ بالمُتَوَضِّئِ، مَعَ أنَّ المالكيَّةَ يقولُونَ بكَرَاهَتِهَا، تمَاشِيًا مَعَ قوْلِ الإمامِ مالك لمَنْ سأَلَهُ عَنْ هذِهِ المسألَةِ: يَأُمُّهُمْ غيرُهُ أحَبَّ إليَّ، ولَوْ أمَّهُمْ هُوَ لَمْ أَرَى فيهِ بأْسًا، عمُومًا فهذِهِ أيضًا مِنْ مسائِلِهِ التي خَالَفَ فيها الشيخ مذْهَبَ مالك، وذلك إِبَّانَ مرَضِهِ عام 1224هـ، قال العلامةُ سيدي أحمَدُ بناني كلَّا في كُنَّاشِهِ نقْلًا عن والدِهِ العلامةِ الفقيهِ سيدي أحمَدَ بْنِ محمدٍ بناني أنَّ سيدَنَا الشيْخَ رضي الله عنه كان في فتْرَةِ مرضِهِ إذا حضَرَتِ الصلاةُ يُخَاطِبُ أصحابَهُ قائلًا: إِنَّ فَرْضِي التَّيَمُّمَ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَجْتَمِعُوا عَلَى إِمَامٍ آخَرَ فَلَكُمْ ذلكَ، فيتَقَدَّمُ ويُصَلِّي بأصحَابِهِ، وهُمْ متَوَضِّؤُونَ، نظرًا لفضيلَةِ الصلاةِ خلفَهُ، ومزِيَّتِهَا، وما فيهَا مِنْ مكْرُمَةٍ عظيمةٍ، وكانَ رضي الله عنه لا يُنْكِرُ على الخارِجِ مِنَ الصَّفِّ، ممَّنْ لا يُفَضِّلُ الصلاةَ خلْفَ مُتَيَمِّمٍ،
وخلاصَةُ القوْلِ فسيدُنَا الشيخُ رضي الله عنه يعْتَمِدُ في هذِهِ المسأَلَةِ على الحديثِ الذي أخرجَهُ أبو داودَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
10 ــ امْتِلَاكُ الرَّقِيقِ، فسيِّدُنَا الشيخُ التجاني رضي الله عنه كان صَارِمًا في هَذَا الإطارِ، وقَدْ وقَفْتُ على وثيقَةٍ نَاقَشَ فيها قضَايَا هذه المسألَةِ مَعَ بعْضِ كبارِ أعلامِ القرويينَ بفاسٍ، كما حَثَّهُ على ضَرُورَةِ إِعَادَةِ النَّظَرِ في شرُوطِ الرِّقِّ وقضايَاهُ، ونَبَّهَهُ لكثيرٍ مِنَ الثَّغَرَاتِ المتَعَلِّقَةِ بالموضُوعِ، والتي لَا زَالَ الإعتمَادُ عليها جَارِيًا آنذَاكَ.
Lorem Ipsum